دخل بعدي الطائرة بدقائق ، شاب هندي أسمر ، رموش عينيه طويلة ، نحيف للغاية ، بلا حقيبة ظهر و لا حقيبة كتف ، لم يحمل جواز سفر و لم يحمل تذكرة ، و جيبيه الخلفيين فارغين ، جلس على حافة الكرسي مبعدا ظهره عن ظهر الكرسي ، حدق في عينيي مباشرة ، تحديق الخائف الراغب في الاطمئنان ، ملابسه جديدة ، رخيصة مقلدة ، ربما اشتراها من الحي الصيني في كوالا ، بعد دقائق جاء مصري يلبس بدلة ضخم الجثة ، طلب منه الجلوس امامي بدلا من الجلوس بجانبي ، ثم جلس بجانبه ، اعطاه بطانية رقيقة و وسادة ، فورا غطى الهندي رأسه بالبطانية و توسد الوسادة و سكن ، كان منظره مريبا للغاية ، من يسافر هذه المسافة بلا أمتعة؟ ، و بلا جواز سفر ، و هو يترك مجال دولة ليدخل مجال دولة أخرى ؟ و ما دخل المصري في الأمر؟ اكتشفت من بطاقتة المعلقة في رقبته أنه رجل أمن ، من مطار القاهرة! هنا في مطار كوالا! ، ربما يرافق كل طائرة مصرية رجال امن من المطار ، كالذي أوقفني امام باب الطائرة و فحص تذكرتي و جواز سفري ربما للمرة الخامسة ، كان وجهه متعبا ، و لأول مره منذ فترة اتعاطف مع أحد رجال الأمن ، لم ينطق أبدا ، فقط أشار لي بالدخول ، قبل أن يمسك بجواز سفري و تذكرتي ، كان يأمر ثلاث سيدات سودانيات بالخروج خارج الطابور و ارسال أحد حقائبهن إلى مخزن الأمتعة بالطائرة ، وجهه لم يكن ينطق سوي بالضجر و التعب ، لا النظرة المتسلطة التي نراها عادة ، كان فعله غريبا ، فحقيبة زائدة داخل الكابينة لن تؤثر سلبا على الطائرة ، و لم أفهم سبب اصراره عندما تحركت الطائرة رفع الهندي يمناه الى صدره ثم الى جبهته و تمتم ، ثم رفعها مره أخرى الى شفتيه و تمتم ، كان يصلي لكي يحميه ربه مما هو قادم ، و لما ارتفعت الطائرة و شعر بفرق الضغط على اذنيه ، أشار الى المصري بجانبه ضاغطا بيديه على اذنيه ، بوجه متسائل متألم ، فأشار المصري له بالاطمئنان فالأمر طبيعي بعد قليل رفع الغطاء مره أخرى الى رأسه و توسد الوساده و استرخى أتى الطعام ، لم يفهم الهندي المضيفة عندما خيرته بين السمك و الدجاج ، و اضطرت هي أن تعيد ما قالته بصوت أعلى ، و أعاد رجل الأمن المصري المرافق له بالعربية ، و كأن الهندي سيفهمه! ، أخيرا طلب الهندي سمكا من المضيفة ، و أخذ يأكل بتمهل ، لم يستخدم سوى ملعقة ، لم يرش ملحا و فلفلا على الطعام ، لم يفتح الخبز الصغير و لم يدهنه بالزبد ، فقط أكل القليل من الرز القليل في الأصل و قطعة سمك صغيرة ، تمضمض جيدا بالماء ثم بلعه ، شرب عصيره الذي اختاره كما اختاره المرافق المصري ببطء ، رشفات قصيرة جدا و صغيرة ، ربما عشرين رشفة ، أمسك المنديل بعد ذلك و مسح فمه بعناية بالغة ، بحرص شديد ، و كأن بواقي الطعام على شفتيه دنس ، أمسك نفس المنديل و مسح حول صينية الطعام البلاستيكية و تحتها ، و كأنه يقوم بواجب أو بعمل مفروض عليه ، ثم رفع الغطاء على رأسه و نام خلال الأربع ساعات القادمة فهمت من حوار المضيفة و طاقم الطائرة مع المرافق المصري أن الهندي "مرحل" ، صعد الطائرة بلا تذكرة و و بلا جواز سفر ، بعلم الأمن الماليزي و الأمن المصري و الأمن الهندي ، سلمه رجل الأمن الماليزي للآخر المصري الذي يمثل الحكومة المصرية لأن الطائة أرض مصرية ، ثم سيسلمه الى الثالث الهندي في مطار بومباي ، هذا الفرد الضعيف ، الذي يخاف من هدير محرك الطائرة ، يحرك الامن في ثلاث دول ، فقط لنقله ، ربما سافر الى ماليزيا للعمل هناك مع أقرانه الهنود ، ربما سافر بطريقة غير شرعية ، في مركب ربما ، ربما لم يكن يحمل جواز سفر ، أو أنه كان يحمل واحدا و أضاعه ، ربما أضاعه عمدا ، تزاحمت الاحتمالات في رأسي ، هذا فتى لا يتمتع برفاهية معجون الأسنان ، فيمضمض فاه بالماء ثم يبلعه ، لأن الماء غال و لا يمكن هدره ، هو لا يستمتع برغوة و رائحة الصابون على يديه بعد الأكل ، بل يكتفي بمسح فمه و يديه جيدا بالورق ، هو لا ينتظر أحدا خلفه لينظف مكان طعامه ، بل هو من اعتاد تنظيف مكان الآخرين عندما وصلنا الى بومباي ، قال الهندي لمرافقه بلغة الإشارة أنه لا يملك نقودا ، و لا يعرف كيف يخرج من المطار الى المدينة ؟ فهمت أن المصري سيسلمه للأمن الهندي ، الذي سيسرحه بعد دقائق ، ربما ما فعله لا يمثل انتهاكا للقانون هناك ، ربما السجون مليئة لدرجة أنها لا تستوعب فردا آخر "مرحل" من ماليزيا ، طمأنه المصري و كأنه أب ، قال أن كل شيء مرتب ، هز الهندي رأيه كعادته و صمت أيضا كعادته ، لما هبطت الطائرة في بومباي ، غادرها المصري بصحبة الهندي و عاد وحيدا لما عدت الى مصر و شاهدت حجم الدمار الذي حل ببومباي ، شعرت بالأسى تجاه الهندي ، ربما هو مرحل من ماليزيا لأنه مشتبه فيه ، لا ، كيف يرحلون مشتبها فيه على طائرة مدنية؟ الأكيد أنه سيتعذب كثيرا ، فرد بلا جواز سفر ، بلا هوية ، مرحل من دولة أجنبية ، فيه كل عوامل الاشتباه ، بلا أمتعه ، انتحاري مثالي ، ينزل مصحوبا بثور أسمر مصري لابسا بدلة سوداء ، الثور المصري لا يتحدث الانجليزية ، و غالبا ما سيسلمه لأول ظابط هندي يراه في أرض المطار ، سيسلمه في صمت ، مما سيضفي طابعا بالغ الخطورة على الأمر ، فيرتعد الظابط الهندي ، التفجيرات تملأ البلد ، و ربما وصلت للمطار ، و هذه المصيبة تلقى أمامي الآن ، لا مفر من اعتقاله لحين نفي ما نشك فيه ، مرمطة ما بعدها مرمطة ، و هو الذي كان يحمل هم المال اللازم لتوصيله خارج المطار ، ربما سينسي في السجن لعدة شهور قميص الهندي المقلد الرخيص الذي ربما ابتاعه من الحي الصيني ، كان مكتوبا على ظهره دولشي آند جبانه |
من رسم الحدود حول الدول ؟؟؟