Tuesday, October 20, 2009
اليوم أحط عليك، غدا أحط على غيرك

في لسان العرب:
الحَطُّ: الوَضْعُ، حطَّه يَحُطُّه حَطّاً فانْحَطَّ.
والحَطُّ وضْع الأَحْمالِ عن الدَّوابِّ، تقول: حَطَطْتُ عنها.
وخلال الأسطر التالية لم يتطرق المؤلف لتعبير "حط على"، وهو ذو معنى واضح لكل صاحب حطة، لكل حاطط، ولكل محطوط عليه.
أفرد د محمد عبدالله عنان جزء كبيرا من كتابه "الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية" ليوضح للقاريء كيف حط الحاكم على المحكومين في مصر في ذلك الوقت. كما أوضح أيضا أن معظم حطاته كانت ذات أسباب منطقية سديدة، على عكس ما روج له منتقدوه من المؤرخين، فذكروا حطاته، ولم يشرحوا لها سببا. بينما في الأغلب، تم شرح أسباب تلك الحطات في حينها. من خلال أئمة المساجد، أو من خلال المقربين من الحاكم، أو حتى من خلال المؤرخين المعاصرين. وقد كانوا صحفيي هذا الزمن.
لكن د عنان أعلن بوضوح بالغ، أن حطات الحاكم الدينية كانت متطرفة للغاية، غير منطقية وبلا أسباب في المجمل، مخالفه لما انتهجه الأئمة الفاطميين السابقين للحاكم، النهج الذي كان دائما متوازنا وبعيدا عن التحيز لدين على حساب الآخر. بل ويضيف عنان أن هذه الوسطية كانت منهجا لخلفاء الدول الإسلامية منذ عهد الخلافة الراشدة. والقول الأخير لعنان يظهر مدى تطرف حطات الحاكم الدينية.
ينقل د عنان من خلال كلمات عدد من الكتب التاريخية حطات الحاكم على النصارى. يستقي مجملها من كتب كتبها مؤرخون مسلمون. ويأخذ القلة من مصدر أو مصدرين مسيحيين فقط. حكت المصادر الإسلامية أفعال الحاكم وسكتت، سرد بعضها أسبابا خالية من المنطق لأفعال الحاكم. بينما حكت المصادر المسيحية تلك الأفعال، وزادت فحللتها ووضعت أسبابا منطقية مادية لأفعاله الشاذة، كان الهدف طبقا لمعظم الروايات المسيحية هو الاستيلاء على المال.
فقد بدأ الحاكم عهده بهدم كنيسة القيامة ببيت المقدس. و"نهب" ما بها من كنوز وذهب وأموال. كان قد هدم قبل ذلك قليلا من الكنائس في مصر. ويبدو أنه وجد أموالا كثيرة في الكنائس، فقرر أن يهدم كنيسة القيامة عله يجد فيها ما هو أقيم. وهو ما حدث فعلا. ثم أمر بأن يلبس النصاري ملابس تميزهم عن المسلمين، وأن يعلق النصارى صلبانا في رقابهم، وأن يعلق اليهود قرامى "قطع" من الخشب في رقابهم، ومنع الاحتفال بالأعياد المسيحية، وجعل للمسيحيين حمامات خاصة لا يدخلون سواها ولا يدخلها أحد غيرهم، وميزها بصلبان معلقة على أبوابها، وكذلك فعل باليهود.
في عام 403، صدر مرسوم بهدم كافة كنائس الديار المصرية. فهدم الكثير منها ونهب. والأكثر من ذلك، أن الحاكم أقطع بعض الكنائس والأديرة، بما فيها وما يتبعها من أملاك. أما ما حيرني كثيرا فهو تصرف بعض النصارى، اللذين طلبوا من الحاكم أن يهدموا كنائسهم بأيديهم، وأن يبنوا مكانها مساجد، فقبل الحاكم.
في نهاية عهده، انقلب رأي الحاكم في النصارى، ففي عام 411 صدرت عدة سجلات تجيز للنصارى واليهود إعادة تعمير وبناء البيع والكنائس والاديرة، كما تجيز عودة المرتدين المغصوبين إلى دياناتهم الأصلية. وتأمر برد ما نهب من الكنائس من ذهب وذخائر مقدسة.
انتهت حطة الحاكم على النصارى واليهود. وخلال تلك الحطة، لم يترك بقية الشعب غير محطوط عليه، بل بادل الحط على المصريين كلهم، اليوم أحط عليك، غدا أحط على غيرك. فحط الحاكم على المسلمين السنة والنساء والتجار والمنجمين والكلاب والمغنيين واصحاب الخمارات، والمضحك في الأمر، أنه أمر بقتل الخنازير. الحاكم حط على الخنازير.
حطت الحكومة الحالية على الخنازير. وأعلنت أن سبب الحط هو الخوف من الوباء. وهو ما ثبت أنه تدليس وكذب. ولم تقل أبدا أن السبب هو الحط على المسيحيين. والحكومة تعرف تماما أنه لابد من توازن مستمر في علاقتها بالناس، بالمحكومين. ولابد من وضع أسوار وخطوط بين المحكومين، ويجب أيضا تقسيمهم الى فرق وطوائف حتى يسهل التعامل مع كل طائفة بدون تدخل الطوائف الأخرى. أيضا يجب خلق أسباب للكراهية بين تلك الطوائف. وهو الأمر الذي قصدته الحكومة بالحط على الخنازير، أقصد المسيحيين. فتلك الحطة كان القصد منها الإيحاء للمسلمين بوقوف الحكومة في صفهم، أيضا كان لضعف سبب الحطة المعلن معنى مؤثر، فقد فهم المسلمون أن الحكومة تحط على المسيحيين بلا سبب منطقي. وانها تزغزغهم – المسلمين - وتعلن لهم في الخفاء أنهم قادرين على ظلم "الأعداء" إذا أرادوا ذلك. فابتسم المسلمون، وعلموا أنهم أحرزوا هدفا في مرمى المسيحيين بهذه الحطة.
و لإعادة التوازن، قامت الحكومة بحطة اخرى على المسلمين. هذه المرة منحت جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية (لا أعلم أيهما والأمر لا يحتمل أن أبحث عنه أصلا) لدكتور سيد القمني، وهو ما اعتبره الناس جميعا حطة واضحة صريحة من طرف الحكومةعلى المسلمين في مصر. وزغزغة للمسيحيين – وربما الليبراليين- في مصر.
ثم قام الدكتور محمد سيد طنطاوي بتقريع فتاة منقبة، وأمرها بخلع نقابها أثناء المثول أمامه أو أثناء دراستها (لا أذكر أين تدرس والأمر أيضا لا يحتمل تضييع الوقت في البحث). وعلى ما أكنه لدكتور طنطاوي من حب واحترام، إلا أني رأيت في تقريعه هذا تسرعا وغضبا، وعلمت في أمره ذلك ظلم للفتاة المنقبة. أما ما تلا ذلك من كلامه عن موقف الاسلام من النقاب فهو لا رأي لي فيه، ولو أني أعلم أن هذا الكلام يدخل في سياق حطة جديدة. هذه المرة حطة بدأت بتقريع من دكتور طنطاوي لفتاة منقبة، وانتهت بحطة حكومية معتبرة على المسلمين، وخاصة المتديينين منهم. قرأت بعد ذلك عدة مقالات في الصحف الحكومية، وقرأت تصريحات لشيوخ أزهريين، كلها تؤكد أن لا علاقة للإسلام بالنقاب، وكلها توصى بالحجاب فقط. مع أن الأمر كله لم يزد عن تقريع من الشيخ لتلميذة عنده "أمال لو كنتي حلوة كنتي عملتي ايه؟". تلك الحطة كانت مثالا لفرط ذكاء الحكومة، فلم يحن الموعد بعد للحط مرة أخرى على المسلمين في مصر، ولكن غضب الدكتور طنطاوي المفاجئ حدث نادر، وكان لابد من استغلاله وتضخيمة وتأجيجه ليظهر في صورة حطة جديدة على المسلمين، وذلك من باب أن تلك الأحداث الاستثنائية لا يمكن بأي حال إضاعتها أو عدن استغلالها. الحكومة أخطأت عندما ظنت انها تزغزغ الليبراليين بتلك الحطة، فقد خرج بعض الليبراليون قائلين "نحن ضد النقاب، مع المنقبات" في مساندة واضحة للمنقبات أو المنتقبات (كما سبق، مجرد البحث عن الكلمة الصحيحة مضيعة للوقت). ودعم حقيقي يتسق مع مواقفهم الداعية للحرية بشكل عام. وأيضا، كان هذا الموقف محيرا للحكومة. تلك الحكومة التي حيرت من قبل حينما طلب بعض النصارى من الحاكم أن يهدموا كنائسهم بأيديهم. هذه المرة أحرز الليبراليون هدفا أيضا، لكن في مرمى الحكومة.
و هكذا ترجح كفة المسيحيين والليبراليين. وواحد بنط على المسلمين. ولكن الميزان لابد له من توازن. فالكفة الراجحة لن تبقى هكذا طويلا.
في انتظار حطة قادمة على المسيحيين.
هنا رابط لكتاب عنان الحاكم بأمر الله
posted by ربيع @ 10/20/2009 04:56:00 PM  
4 Comments:
  • At 12:04 AM, Blogger كوازيمودو said…

    وما تفسيرك لحطة البطة؟ وعلاقتها بذقن القطة؟

     
  • At 9:44 PM, Blogger أحمد said…

    ليه نظرية المؤامرة دا؟
    كأن الحكومة دى مجموعة من الاشرار والشعب يا عينى هم الاخيار الغلابة اللى طول الوقت بيتعرضوا لقهر الحكومة

     
  • At 8:18 AM, Blogger محمد صبرى said…

    أظن أن هذا التبادل المستمر للأوضاع-الحطات- في الداخل يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الفصائل المصرية على اختلاف طموحاتها التموضعية مازلت لم تتطور بعد عن الأصل المشترك بينها و بين القرود

     
  • At 11:27 PM, Blogger sal said…

    استمتعت بحطة هذه التدوينة دمت حاط
    أو حاطط
    واوعه تكون محطوط عليه

    شكرا ع اللنك
    لك منى كل التقدير

     
Post a Comment
<< Home
 
 
عن شخصي المتعالي
مدونات
روابط
كتب
أخبار
Free Blogger Templates
© SprinG
eXTReMe Tracker