بمناسبة مرور 5 أعوام على بدء حركة التدوين المصرية ، و مشاركة مني في سيمنار المعرفة و التدوين الذي تقيمه المؤسسة المصرية لأبحاث التدوين ، كتبت هذه الورقة البحثية
قد تبدو المدونات لأول وهلة منبرا للإبداع و التميز ، فالنصوص المكتوبة و المنشورة على المدونات تتشابه كثيرا مع الأدب المطبوع على الورق بكافة صيغه ، خاصة القصص القصيرة و المقال الصحفي و اليوميات ، إلا أن الاختلافات المستترة بين ما هو مطبوع و ما هو إلكتروني تكشف أعراض خطيرة لدى غالبية المدونين .
يبدو المدون دائما غير مهتما بإبراز الحقيقة ، و السعي وراءها ، و هو ما ينظر إليه الصحفي بعين الاهتمام ، هذا بالإضافة الى المراجعات الشافية الوافية من رؤساء تحرير الصحف ، كأن يسأل رئيس التحرير وزارة الداخلية عن وجود حساب للوزارة على تويتر من عدمه ، كذلك فالمدون يحرص باستمرار على العبث بقواعد النص و اللغة ، في الوقت الذي يجتهد فيه الشاعر و الروائي ليصل الى أعلى مستوى ممكن من جودة النص ، بالطبع مع الحفاظ على قواعد اللغة المكتوب بها النص ، و لا مجال هنا لنقاش حول جهل بعض الكتاب بلغتهم ، الأمر الذي أدى بهم إلى اختراع لغات أخرى ليكتب بها أجزاء من نصوصه ، كما فعل محمد الطناحي و جي آر آر تولكين ، هذه أمثلة قليلة لا يجب الخلط بينها و بين باقي المدونين ، سأوضح لاحقا أسباب عبث المدونين بالنص
بينما يحرص معظم المدونين على إضفاء أبعاد درامية على مدوناتهم ، كأن يضع أحدهم موسيقى عظيمة تثير المشاعر المرهفة – كما يظن – على مدونته ، لكي يستمع اليها القاريء و لكي تتفاعل و تنقل أحاسيسه كاملة
قبل البدء في الحديث عن اضطراب الشخصية المتعددة التدويني لابد من ذكر مثال شديد الخصوصية عن العرض الموسيقى المصاحب ، في حالة المدون أحمد ، الذي نشر رواية بعنوان "روجرز" ، و نصح قراءه بسماع ألبوم بينك فلويد المعنون "الحائط" ، جريا على عادة المدونين عندما يذيعون موسيقى معينة على مدوناتهم ، و هو ما يؤكد ما ذكرته آنفا ، فالتدوين يصبح في هذا الحالة أسلوب حياة ، بحيث يعود المدون اليه مرة بعد اخرى ، حتى أثناء التعامل مع عمل كلاسيكي مثل كتابة رواية ، بكل ما تقتضيه قراءة الرواية من تركيز و فراغ للعقل و الأمعاء ، ناهيك عن سماع ألبوم فصامي مثل الحائط
إرهاصات التدوين
يبدأ الأمر غالبا بإنسان يعاني من اضطراب الشخصية المتعددة غير التدويني ، و اضطرابات الشخصية متعددة و متشعبة و لا مجال هنا لذكر انواعها و تفرعاتها ، يكفي القول أن كل مدون في الاصل مضطرب الشخصية بطريقة ما ، و لا علاقة للتدوين بكفاءة المدون أو ابداعه ، بل يبدأ الأمر دائما بقراءة أحد مدونة احد آلهة التدوين السبعة ، تليها فورا ظهور الرغبة الملحة في انشاء مدونة ، و التي تنتاب المضطرب الشخصية و تؤثر على أداءه المهني و الاجتماعي ، فيبدأ بالأخلاص في عمله و التفاني في اتمامه ، بل قد يقبل أعمالا أخرى يؤديها في وقت فراغه و راحته ، بالإضافة إلى محاولته الدؤوبة للتعرف على باقي المدونين ، و الشوق لرؤية أحد آلهة التدوين السبعة ، الأمر الذي يصل به في النهاية إلي انشاء مدونته الخاصة ، رغبة منه في قراءة تقريظ زملاء التدوين ، مدونا في تعليقات على تدويناته أيا كان موضوعها و الغرض منها
مرحلة الهاجس
قد يبقى المدون – تغير توصيف الحالة من مضطرب الشخصية الى مدون – فترة طويلة في مرحلة الإرهاصات ، حتى بعد انشاء المدونة و كتابة بعض التدوينات بها ، و هي المرحلة التي تحمل قدرا كبيرا من الضغوط على المدون ، فما إن يبأ المدون بالتدوين حتى تنتابه هواجس التدوين المعروفة ، و أشهرها هاجس خط المدونة ، و هو هاجس يصيب المدونين المتأخرين نسيبا ، فلن نلاحظ وجود هاجس خط المدونة عند آلهة التدوين السبعة ، أو من تلاهم من أنبياء التدوين الإثني عشر ، أو من خلفهم من حواريي بلوجسفير المائة و تسعة .
يختلف الكثيرون في توصيف و تعريف هاجس خط المدونة ، و التالي تعريف بسيط أتفق عليه عشرة من انبياء التدوين : رغبة المدون في ان يكون لمدونته موضوع واحد جاد تدور حوله كل تدوينات المدونة ، و كما يظهر من التعريف فإن تحقيق هذه الرغبة قد يكون مستحيلا ، فمع كثرة المدونين و المدونات يبدو ان جميع المواضيع قد تم استهلاكها ، بل و قد نرى عدة مدونات تتفق في موضوع واحد ، فين حين تتضاد مواضيع مدونات اخرى ، بينما يتمتع مدونوها بقدر كبير من الصداقة و التسامح و قبول الآخر
أحد أهم التأثيرات التي تجعل المدون يختار موضوعا بعينه ، تشجيع أصحاب المدونات ذوات الموضوع الواحد له ، فلو حدث و أيد أصحاب مدونات الحفاظ على البيئة مدونا ما أثناء مرحلة هاجس خط المدونة ، فأنه سيصبح غالبا مدونا محافظا على البيئة ، و الامر سيان بالنسبة مدونات السلفيين ، و الاشتغاليين ، و الليبراليين الجدد ، بينما يبقى حرص المدونين الإجويين على انتقاد كل خلق الله سببا في عدم انضمام أي مدون لزمرتهم
مرحلة الغزارة
يلاحظ ان المرحلة الثانية تكون دائما تالية مباشرة لمرحلة هاجس خط المدونة ، و هو ما يطلق عليه حالة الغزارة الإنتاجية ، و التعريف واضح من الإسم ، يبدأ عادة المدون في كتابة تدوينة او اثنتين كل اسبوع ، ثم يزيد العدد الى تدوينة كل يوم ، و ربما يصاب المدون بعارض كثافة الغزارة ، فيكتب ثلاث أو أربع تدوينات في اليوم ، قد تكون إحداها سطرا واحدا ، يصف – مثلا- كيف أشعل المدون سيجارته هذا الصباح . و عارض كثافة الغزارة دليل واضح على وصول المدون الى آخر مراحل أضطراب الشخصية التدوينية المتعددة ، فتظهر على المدون أعراض الإضطراب التي سأوضحها لاحقا
بينما يستمر معظم المدونين في مرحلة الغزارة الإنتاجية لمدد طويلة ، بدون ان يظهر عليهم عرض كثافة الغزارة ، قد يستمر الامر لمائة تدوينة أو اكثر ، يبدأ الأمر بعدها في التحول الى المرحلة التالية
مرحلة الإنكار
تأتي هذه المرحلة كرد فعل مباغت للاهتمام الإعلامي الزائد عن الحد بالمدونات ، و أشهر الحالات التي مرت بمرحلة الأنكار و لم تجتازها ، تلك المدونات التي لم تستمر ، و اغلقها اصحابها ، بدون إبداء أسباب معينة ، في حين ان السبب الرئيسي للإغلاق كان عدم قدرة المدون على تجاوز مرحلة الأنكار ، و هي المرحلة التي يبدأ المدون في الإقلال من التدوين ، و النظر الى التدوينات السابقة على أنها تدوينات ركيكة و لا هدف منها ، و يبدأ عرض الإنكارات الثلاث.
فينكر المدون أولا تدوبنه لمثل هذه التدوينات ، و يبدو الامر غريبا هنا ، فالكل يعلم انه كاتبها ، فيحرص المدون دائما على إعلام الجميع بأنه كان مريضا و محموما أثناء التدوين ، أو أنه كان سكرانا أو محششا ، و ما الى ذلك من حالات فقدان الوعي المؤقت ، التي قد تعطي من حوله مبررا للتنصل من تدويناته
بعد ذلك يبدأ المدون في إنكار كونه مدون أصلا ، فيعلن على الملأ أن ما حدث هو في الحقيقة تجربه طفولية و قضاء لوقت الفراغ بلا هدف ، و أنه ليس مدونا و لا يحزنون ، و يبدأ في فلترة قائمة أصدقائه ، و إقصاء المدونين منها ، و يصاحب عادة الإنكار الثاني فعل حذف المدونة ، فيحذف المدون مدونته تحت ضغوط من أناه الداخلية و هو ما يطلق عليه أحد آلهة التدوين السبعة : تحولت المدونة الى ثقب أسود
الإنكار الثالث هو إنكار معرفة المدون بالتدوين في حد ذاته ، و هو تال لتحويل المدونة لثقب أسود ، و أشهر مثال كلاسيكي للإنكار الثالث ، عندما سئل أحد المدونين عن مدونته التي كان قد أغلقها منذ ساعتين فقط ، فقال مخاطبا سائله ، عاقدا حاجبيه في تساؤل : يعني ايه مدونة؟ . و الانكار الثالث مرحلة متقدمة ، لا يصل اليها إلا قلة قليلة من المدونين المتزنين نفسيا ، و غير المصابين بأعراض أضطراب الشخصية ، بينما يتوقف المدونون عند الانكار الثاني ، ليجتازوا الانكار الثالث و ينتقلوا للمرحلة التالية من الاضطراب
مرحلة السكون
و هي المرحلة التي تفرق بين المدون و الشخص الطبيعي ، و لا وصف محدد أو تعريف متفق عليه لهذه المرحلة ، سوى أن كل مدون كتب أكثر من مائة تدوينة وصل الى مرحلة السكون
و هي من ناحية المحتوى لا تختلف عن المراحل السابقة ، سوى ان المدون يؤكد من خلال تدوينات خط المدونة الذي اختاره ، خط المدونة الذي اختاره ، و قد يستمر بعض المدونين في الغزارة الانتاجية ، و أيضا يبتعد المدون عن مرحلة الانكار ، بل و ينكرها فيما يعرف ب انكار الانكار ، و يسكن تماما في تدوينيته ، و تتثبت تدوينيته ، ليصبح مدونا كاملا
المدون الكامل
و هو المدون المعروف لدينا جميعا ، الشخص الطبيعي الذي أصيب ب اضطراب الشخصية المتعددة ، الذي تطور مع الزمن و التعامل مع الكمبيوتر الى اضطراب الشخصية المتعددة التدويني ، و أصبح علاجه مستحيلا ، و على الرغم من أننا نشاهد نوعين واضحين شديدي الوضوح من المدون الكامل ، الا أني لا أرى فرقا بينهما من حيث التشخيص ، فكلاهما يعترف بتدوينيته و يمارسها بصدق و تفاني ، و النوع الاول و هو الأعم و الاكثر انتشارا ، و هو المدون السلبي ، فأيا كانت شخصيته الواقعية ، سنلاحظ ظهور شخصية معاكسة تماما على المدونة ، فلو كان المدون هاديء الطبع صموتا حلو الحديث ، سنراه غاضبا ثوريا كثير السباب على مدونته ، و إذا كان المدون متدينا محافظا على أداء شعائر دينه ، مستغفرا الله حينما يسمع هرطقة أو تجديفا ، سنراه منتقدا الدين و الشيوخ و القوانين الدينية على مدونته ، و هو أيضا المدون الطبيب الذي يمارس الطب في مستشفيات الدمرداش و الجلاء للولادة ، و يتعامل بحيوانية مع مرضاه و يضرب الحامل على فخذها مطالبا إياها بالحزق ، بينما هو ينتقد أفعاله تلك على مدونته
في حين أن المدون الإيجابي يكون اكثر تفاعلا مع الناس و المجتمع ، و فخورا بكونه مدونا ، بل و قد يسجل كلمة مدون أمام خانة المهنة في بطاقته الشخصية ، و يعرف نفسه على أنه مدون ، و ربما اذا سأله الملكان عن دينه رد عليهم : مدون ، و احد أشهر أعراض المدون الإيجابي تعليق الكاميرا الخاصة به في رقبته ، و انتظار المدونين في أماكن تجمعهم ، و ذلك لالتقاط صور لهم ينشرها على مدونته ، و ربما وز أحدهم ليلتقط له صورة و هو يلتقط للمدونين صورة ، و هو يقيم الحفلات للمناسبات المتعددة المرتبطة بالمدونة ، عيد ميلاد المدونة ، عيد ميلاد أم المدونة ، احتفالية التدوينة المائة ، احتفالية الزائر المليوني ، احتفالية البانر الجديد ، و هكذا ، و أحد الأعراض أيضا كتابته عن التدوين اكثر من تدوينه ، و كتابته عن المدونين أكثر من أي أشخاص آخرين ، و نقل أخبار المدونين ، من مات منهم و من تزوج و من طلق و من ربط دوالي خصيته اليسرى ، و من صبغت شعرها ، و هو من كبار منظمي الحملات التدوينية ، مثل حملة : أحه تحرش ايه يا معرص ، و حملة حتى لو البنت قالعة ملط – دي حملة حقيقية و الله – و حملة : أمك – و الله اسمها امك فقط بدون كلمات سابقة لها – و حملات تأييد المدونين المحبوسين و المقبوض عليهم و الضالين .
يبقى أن أضيف أن الدراسات التي شملت المدون الإيجابي قليلة للغاية ، و ذلك لعجز الباحثين الرجال عن متابعة المدونات الإيجابية ، و ذلك لإصابتهم بأعراض مرضية محيرة ، أهمها تهتك الخصيتين ، أما الباحثات فقد تسامت مرراتهن و قطع بعضهن الخلف ، هذه الأعراض حدثت عند متابعة المدونات الإيجابية بكثير من الحرص و التدقيق .
و هو ما يفتح أفاق جديدة في دراسة المدون الإيجابي .